ابحث في الموقع

رحلتي الأولى إلى سيئون!

رحلتي الأولى إلى سيئون!

( #تاربة_اليوم ) / كتابات وآراء
كتب : مصطفى نصر – ئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي
23 نوفمبر 2024

يسود نوع من الهدوء والترتيب على سلوك المسافرين، وهو سلوك لم يعد مألوفًا لنا كيمنيين. تشعر أننا خلقنا بحبال صوتية مختلفة، أو أنه تأثير مطاعم “السلتة”، وهي أكلة يمنية شهيرة، في العادة تتسم المطاعم التي تقدمها بالإزعاج والأصوات المرتفعة. تحاول المضيفة بلكنتها العدنية المعروفة، ضبط أماكن الجلوس للمسافرين.
المسافرون على قدر عالٍ من التهذيب، خليط من أبناء حضرموت وسكان مأرب، فيما يبدو أن البعض من سكان صنعاء وما حولها، وهم قليل.
أصحاب “الكوافي” يشكلون نسبة كبيرة من الركاب، من إندونيسيا ودول مختلفة، إذ ماتزال سيئون قبلة للزوار من هذا النوع.
نصف ساعة إضافية لترتيب مقاعد الركاب، يختلط صوت كابتن الطائرة المرحب بالركاب، مع أصوات بكاء الأطفال، ودردشات بأصوات مسموعة.
أشعر بالتعاطف مع المضيفات وهن يحاولن ترتيب الأمور، تبدو مهمتهن الآن أسهل من رحلة الخروج من اليمن، إذ إن المسافرين قد عايشوا نوعًا من النظام والترتيب في الخارج، وهو عكس ما يمكن ملاحظته أثناء رحلات الخروج من اليمن. تذكرت قصة حدثت قبل سنوات طويلة، أثناء رحلة لـ”اليمنية” من عدن إلى صنعاء، عندما رفض أحدهم أن يغير مقعده الذي جلس فيه بالخطأ، قال: “كل الكراسي مثل بعض، أو هذا الكرسي حق أبوك!”.
اليمنيون شعب طيب، لكنه لم يوفق بقيادة توازي طيبته. “يتعامل العديد من المسؤولين فيه كأنه لا أحد يمكن أن يسائله”، وهو تعبير لأحد المسؤولين، الذي سألتقيهم لاحقًا في رحلتي!
لم أستطع أن أميز لهجة العجوز التي كانت تتواصل مع ابنها، وتقول له الطائرة الآن “بتفر”، لكن فهمت أن ذلك يعني أنها ستقلع قريبًا.
كعادة الطيارين اليمنيين يقلعون بسلاسة واحتراف. الطائرة تشق غبار القاهرة نحو الصعود، يهدأ الأطفال للحظة كأنهم دخلوا في سبات فجأة، تتزاحم في ذهني أسئلة كثيرة؛ سيئون، الحرب، تدهور العملة، الفساد، والتفكير هل يمكن لليمنيين أن يعيشوا في أمن ونظام كباقي الأمم.
كنت انتهيت من اجتماع كان أبرز ما فيه تخفيض المساعدات لآلاف الأسر اليمنية، خبر يعني الكثير لمئات الآلاف من اليمنيين في مناطق شتى، لا سيما في مخيمات النزوح والمديريات الفقيرة.

طائرة “السعيدة” تربض هناك في إحدى زوايا مطار سيئون، كشاهد على حقبة لم تكن الأفضل، لكن لا يمكن مقارنتها بواقعنا الحالي في كل شيء.

كانت الساعة الثانية وثلاثين دقيقة ظهرًا. طيران “اليمنية” يحلق فوق وديان سيئون، متجهًا إلى مطار المدينة الصغير والهادئ، ودرجة الحرارة ٣٥ درجة، أي أن الصيف قرر البقاء هنا لأطول فترة ممكنة. لا تبدو الأجواء صافية كما كنت أتوقع، الغبار يملأ الأجواء في حين تتوزع مناطق اخضرار في الوادي لا تبدو مرتبة كما ينبغي. وهو حال البلاد التي يمضي كل شيء فيها ارتجاليًا ودون خطة واضحة.
طائرة “السعيدة” تربض هناك في إحدى زوايا مطار سيئون، كشاهد على حقبة لم تكن الأفضل، لكن لا يمكن مقارنتها بواقعنا الحالي في كل شيء.
خفت صوت الأطفال الذين أشغلوا الطائرة بالبكاء طوال الرحلة، وبجواري شاب يحاول سد أذنيه ليغفو ولو قليلًا في طائرة تفتقر لكل وسائل التسلية!
دلفنا إلى بوابة المطار مشيًا على الأقدام، أحد الموظفين يقف خلف حاجز زجاجي، يأخذ الجواز لعمل الماسح الضوئي، أسير متجهًا إلى جهاز تفتيش حقائق اليد، تبدو خطوة أمنية مهمة في مدينة شهدت قبل سنوات حربًا ضروسًا مع عناصر “القاعدة” الذين أنهكوا مدينة فاتنة كسيئون، لتتعافى منها في العامين الأخيرين فقط. ينبهني رجل الأمن أنت لم تختم الدخول. قلت له لكن الموظف عمل مسحًا ضوئيًا لجوازي، واعتقدت لوهلة أن الأمور تطورت بحيث يتم مسح الجواز كبديل عن الختم. اكتشف أن هناك شباكًا آخر يصطف الناس حوله لكي يبصموا بأصابع الأيدي كلها.
عند بوابة الخروج يستقبلك الزميل محمد سليمان برحابة الحضرمي الأصيل، ومعه ستحب مدينة هادئة وثرية بكل التفاصيل، تريم، شبام، قصر الكثيري، ومناطق وعادات كانت ملهمة للشعر الذي تحول إلى أغانٍ ملأت آفاق الجزيرة والخليج.

مدينة هادئة

كانت ليلة خميس. فيها يحتفل أهل سيئون بطريقتهم، إذ يأتون في الغالب لأكل الدجاج المعد على الفحم، والجلوس على ناصية الشارع، أو أخذ الوجبة إلى منازلهم. “رومنسية أهل سيئون” كما يسميها صديقي محمد.

فعاليات “مطلع المطالع” الذي يعد مهرجانًا يفد إليه الآلاف من أبناء وادي حضرموت، تتنوع فعالياته الشعبية، وتستعيد فيها سيئون روحها كملتقى للجميع.

سيئون مدينة هادئة، لا تخفي عن وجهها ملامح الحضارة، الناس متصالحون مع بيئتهم، ومسالمون بطريقة مدهشة. لم يعتد أبناء سيئون استخدام أبواق السيارات بصورة عبثية كما يحدث في الكثير من المدن اليمنية.
حطت رحالنا في هذه المدينة الجميلة، بعد أيام من فعاليات “مطلع المطالع” الذي يعد مهرجانًا يفد إليه الآلاف من أبناء وادي حضرموت، تتنوع فعالياته الشعبية، وتستعيد فيها سيئون روحها كملتقى للجميع. فعاليات وأنشطة مختلفة، تتوشح المدينة بالزي الحضرمي التقليدي، وتمتلئ الساحات بالزوار من كافة مديريات الوادي.
تحافظ المدينة على العديد من الفعاليات الثقافية والاجتماعية إلى جانب “مطلع المطالع”. وتشبه الفعالية، كما يصف الزميل محمد باحفين، “كأس العالم”، لكن على مستوى حضرموت. تنتظم فيه على مدى أسبوعين خلال شهر أكتوبر، العديد من الفعاليات والمسابقات والأنشطة الرياضية والترفيهية.
في الطريق إلى شريوف، تبعد نصف ساعة بالسيارة عن مدينة سيئون، كنا برفقة الشيخ عارف الزبيدي، رئيس الغرفة التجارية الصناعية في سيئون، عشرات النقاط الامنية، ينظر أفرادها إلينا بصمت، لا أحد يسأل أين وجهتك ولماذا؟ والكثير من التعقيد الذي يمكن أن تجده في نقاط أمنية في مناطق أخرى. حتى تحول إلى سؤال عبثي: من فين جاي؟ فين رايح؟ وكأن الإجابة على سؤال من هذا النوع ستمثل إضافة معلوماتية مهمة!
على الجدران ترتسم أعلام متعددة، قلت لصديقي، ربما المكان الوحيد الذي تبقت فيه ديمقراطية الشعارات على الأقل. إلا أن له رأيًا آخر: “غياب الأب الحازم ، يجعل الأولاد تلعب”! هكذا يفسر المسألة، وسيئون جزء من حالة الاستقطاب والصراع التي تعيشها اليمن كلها بدرجات متفاوتة.
يسميها الصديق محمد باحفين بأنها “منطقة خضراء”، حيث الجميع موجود، والكل لا يشعر أنه غير مرغوب فيه.
في ديوان وكيل محافظة حضرموت في وادي حضرموت عامر العامري، كان لنا نقاش ثري ومطول حول الفرص الاستثمارية، المحن التي تخلق التحديات والفرص أيضًا.
تحدثنا عن تصدير البصل، الجلود، العسل، وإنتاج الحناء. صادرات الجلود التي باتت تشكل رقمًا في الصادرات، وكذلك البصل وغيرها…
تحدثنا عن قواسم مشتركة كثيرة في الاقتصاد، فالرجل اقتصادي سبق أن قرأ دراسة أصدرها مركز الدراسات والإعلام الاقتصاديّ، بتمعن، وهي ميزة لا تجدها كثيرًا في مسؤولينا اليوم.
طوفنا على القرارات الاقتصادية والسياسات التي تؤثر سلبًا على الوضع الاقتصادي، لا سيما المنتجات الزراعية، وآليات التعاون والتنسيق بحيث يتم دراسة كافة جوانب السياسات.
تتوزع السقايات في سيئون كمزهريات أنيقة في الشوارع. يحافظ عليها أبناء سيئون كتقليد وإرث حضاري كباقي الموروث الجميل الذي تكاد تلحظه ببساطة.

عادات مهمة وجلسة طرب

يحافظ الناس هنا على بعض العادات المهمة كطريقة شرب الشاي. إذا عزمك حضرمي في سيئون على الغداء، وقدم لك بعدها كوب الشاي المميز، إياك أن ترمي الملعقة بعيدًا. يعبر ذلك عن تعبير سيئ عن عدم الرضا، لذا يفضل أن تشرب الشاي وأنت تمسك بالملعقة وهي داخل الكوب، سيقوم أحد أبناء الشخص المضيف أو قريبه بالمرور بالشاي للمرة الثانية والثالثة. بعدها إذا لم تقلب الملعقة سيواصل تزويدك بالشاي إلى ما لا نهاية.

العروس هنا في سيئون تأتي ومعها “عدة الشاي”، وهي عباره عن أوانٍ جميلة تتضمن كافة متطلبات الشاي، رغم أنها مكلفة إلى حد كبير.

اكتشفت هذه العادة بعد أن رميت الملعقة جانبًا، فأنا أشرب الشاي بدون سكر، وتوقعت أن لا حاجة لي بالملعقة، قبل أن أكتشف الحكاية، أو العادة التي يتوارثها أجيال حضرموت الوادي.
العروس هنا في سيئون تأتي ومعها “عدة الشاي”، وهي عباره عن أوانٍ جميلة تتضمن كافة متطلبات الشاي، رغم أنها مكلفة إلى حد كبير. لكن الحفاظ على هذا السلوك أمر مهم، إذ يلتقي جميع أفراد الأسرة عقب الغداء، ليجلسوا معًا في لحظات حميمية كأسرة، بعد عمل الفترة الصباحية؛ الوقت الذي يلتقي فيه كل أفراد العائلة.
في جلسة طرب حضرمي سيأخذنا الزميل محمد الحامد إلى إحدى مزارع المدينة، نصطحب معنا الفنان منير رجب. فنان مصقول بحب الغناء والتواضع. يدق أوتار العود بأحاسيسه، تقلع معه تدريجيًا بنغمات الدان، تحلق مع أغاني أبو بكر ومحمد سعد عبدالله.
للوهلة الاولى، وأنت تزور مدينة شبام التاريخية، تشعر بالدهشة، تعود بخيالك سنوات وقرونًا. كانت حضارة هنا صنعت هذا الإبداع، كيف يحدث أن نعود إلى الخلف بهذه الطريقة؟ من العجب أننا اليوم لا نستطيع أن نعالج مشكلة تكاثر الموتوسيكلات في تعز، أو إصلاح الطريق إلى قلعة صيرة، أو وضع حد للنهم على الأراضي في المكلا!
تجولنا في أزقة سيئون برفقة الزميل علوي بن سميط، صديقي الذي فرقتني عنه الظروف لأكثر من خمسة عشر عامًا. من بين الجدران العتيقة ينبعث عبق الطين ونسمات الوادي على مانهاتن الصحراء كما يسميها الرحالة والزائرون. تفارق كل هذا الإبهار وأنت مشدود إليه. كل شيء فيك لطيف وجميل يا سيئون!

المقالات التي يتم نشرها لاتعبر بالضرورة عن سياسة الموقع بل عن رأي كاتبها فقط

إغلاق