ابحث في الموقع
تاربة اليوم - الموقع الإخباري اليمني

شبام – عبقرية العمارة الطينية وحكمة الأجداد

شبام – عبقرية العمارة الطينية وحكمة الأجداد

بقلم: عبدالرحمن علي جبر
       “عاقل حارة شبام”
السبت 7 ديسمبر 2024

شبام حضرموت، أو ما يُطلق عليها “مانهاتن الصحراء”، ليست مجرد مدينة طينية بُنيت وسط الرمال، بل هي نموذج حي يروي قصة إبداع هندسي وثقافة اجتماعية غنية بالجمال والانسجام، هذه المدينة العريقة، التي يعود تاريخها إلى أكثر من 500 عام، تعكس عبقرية معمارية جمعت بين التكيف مع البيئة واحترام القيم الاجتماعية التي سادت بين سكانها.

فهناك الأسس المعمارية والجمالية للمدينة فعندما تتأمل بيوتها، تجد واجهاتها منقسمة بين نوعين رئيسيين من التكسية:

1. الرشنة: تغطية بالنورة والبطحاء، وهو مزيج محلي يُعرف بصلابته ومقاومته للعوامل البيئية، لا سيما الأمطار والحرارة.

2. التجليد: تغطية بالطين والتبل، الذي يمنح البيوت مظهرا طبيعيا بسيطا يمتزج بانسجام مع طبيعة الأرض المحيطة.

لكن هذه الخيارات لم تأتِ عبثًا؛ فكل تفصيل في البناء يعكس فهما عميقا للبيئة وظروف العيش في الصحراء. فقد حرص المعماريون في شبام على رش النورة في الأجزاء العلوية من المنازل (القروي أو السطح)، وهي الأكثر تعرضًا للأمطار، مما يُكسب البناء قوة ومتانة إضافيتين، كذلك، تُستخدم النورة في الأساسات لتوفير عزل طبيعي ضد الرطوبة، وهو أمر بالغ الأهمية في بيئة تعتمد على الحماية من التغيرات المناخية.

إلى جانب الجوانب الهندسية، هناك بُعد اجتماعي عميق يتجلى في تصميم البيوت، في مجتمع شبام، لم يكن التفاخر أو الاستعراض المالي جزءا من ثقافة السكان، فقد اختار المقتدرون الاكتفاء برش السطح والأساسات بالنورة، وترك بقية الجدران بلون الطين، ليحافظوا على انسجام المنظر العام للمدينة، هذه القيم الاجتماعية، القائمة على التواضع وجبر الخواطر، جعلت البيوت تبدو وكأنها لوحة فنية متكاملة، حيث تتشابه المنازل لتُبرز الوحدة والتكافل بين أفراد المجتمع.

فالإبداع الهندسي في ظل التحديات البيئية جعلت من مدينة شبام ليست فقط جميلة في تصميمها، بل عبقرية في استجابتها للتحديات البيئية، فالمنازل الطينية، التي يصل ارتفاع بعضها إلى 30 مترا (ما يعادل 6-8 طوابق).

فقد شُيدت ابنية المدينة بطريقة تجعلها مقاومة للعوامل المناخية، الطين، وهو المادة الأساسية للبناء، يتميز بخصائص عزل حراري ممتازة، مما يحافظ على درجات حرارة معتدلة داخل المنازل، سواء في الصيف الحار أو الشتاء البارد.

كما أن تصميم الأزقة الضيقة بين المباني يساعد على تقليل تأثير الرياح الحارّة، بينما يخلق نظاما بيئيا طبيعيا يدعم استدامة المدينة في مواجهة الظروف القاسية.

لذا فشبام بين التاريخ والحداثة وعلى مر القرون، أصبحت رمزا للعمارة المستدامة، مما جعلها تُدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1982، هذه المدينة ليست فقط شاهدة على عبقرية الأجداد، بل هي مصدر إلهام للمفكرين والمعماريين المعاصرين الذين يسعون لتطبيق مبادئ البناء الصديق للبيئة.

فشبام ليست مجرد مدينة طينية، بل هي رسالة حية من الماضي تحمل في طياتها قيم التواضع، الإبداع، والانسجام مع البيئة، إنها تحفة معمارية وإنسانية تروي قصة مجتمع عاش بتوازن مع طبيعته، وحافظ على تراثه من خلال هندسة معمارية تفوقت على الزمن.

فعندما تسير في أزقة شبام وتُلقي نظرة على واجهات بيوتها، تشعر وكأنك تقرأ فصلًا ممتدا من كتاب الحضارة الإنسانية، حيث يُجسد الطين ليس فقط أساس البناء، بل أساس الحياة.

إغلاق