الانتماء إلى حضرموت: بين وهم الأصالة وحق الجميع
تاربة_اليوم / كتابات واراء
بقلم: د. عبدالناصر سعيد محمد البطاطي
9 إبريل 2025م
تطفو على السطح بين الحين والآخر نبرة تعلو بها أصوات التشكيك في انتماء هذا أو ذاك إلى حضرموت، بزعم أن بعض العائلات أو الأفراد أو التجمعات القبلية وافدون، أو أنهم ليسوا من أصل الأرض، مستندين أحيانًا إلى ما يُسمى بخطوط الشيبان أو بعض الوثائق التي يُقال إنها قديمة. لكن من كتب هذه الوثائق؟ وكيف كُتبت؟ وكم عمرها؟ وما مدى صحتها ومصداقيتها؟ الأمر هنا بحاجة إلى بحث وتدقيق في كل شيء؛ من حيث الأصل والمصدر، وكيفية القدوم، وما رافقه من دوافع وأخبار وأسانيد.
لقد صارت تلك الأوراق – عند بعضهم – قسمة للأرزاق، وكأن الأرض تُورث بالخطوط، أو تُحتكر بشهادة ميلاد الأجداد! إن هذه الرؤية تفتقر إلى البُعد العلمي والإنساني، وتتجاهل سنن العمران البشري وحركة التاريخ.
ومن يدعي الأصالة الحضرمية عليه أولًا أن يجيب على سؤال بسيط: مَن مِنَّا يستطيع إثبات نسبه المتصل بحضرموت منذ زمن آدم عليه السلام؟ بل مَن مِنَّا خُلق من تراب حضرموت ذاته، ولم يكن في أصوله من جاء من الشام، أو العراق، أو تهامة، أو عدن، أو القرن الأفريقي، أو الهند، أو غيرها من أرض الله الواسعة؟ وهل أحدنا جبل من جبال حضرموت لم يبرح مكانه منذ الأزل؟
الحقيقة العلمية والتاريخية أن حضرموت كانت – ولا تزال – نقطة تلاقٍ وتداخل وهجرة بشرية مستمرة. لا أحد يمكنه أن يدعي أنه لم يأتِ من مكان ما، في زمن ما، عبر سلالة ما. الفارق الوحيد أن بعض الأجداد جاؤوا قبل بعض، وهذا لا يمنح أحدًا أفضلية على أحد، ولا يصنع أصلًا ولا فرعًا. الكل أبناء الأرض، والكل من بلاد حضرموت، والكل في تكوينها شركاء.
أما ما يُعرف بالوثائق القديمة، فهي ليست سيوفًا تُشهر في وجه الناس لنفيهم أو إقصائهم، بل أدوات لفهم التاريخ – إن صحت وصدق ما فيها – لا للتحكم به. فكم من بيت لم تُكتب له وثائق، وكم من نسب لم يُسجل، وكم من تاريخ ضاع أو دُفن أو تم تجاهله عمدًا أو سهوًا. والاحتكام إلى الوثائق دون وعيٍ تاريخي ومنهجي علمي، هو نوع من الاستسهال الفكري والتلاعب بالهوية.
أغلبنا في حضرموت يملك وثائق وصكوكًا قديمة، وهنا سؤال كبير: من وجد أولًا، الإنسان أم الورق؟ أليس الإنسان هو من صنع الورق، وخط عليه ما أراد؟
ومن المثير للسخرية أن البعض يرفض وجود من يصفهم بالوافدين، بينما لا يستطيع إنكار أن جد البشرية الأول، آدم عليه السلام، نفسه كان وافدًا إلى الأرض من الجنة! فإذا كنا كلنا أبناء وافد، فبأي منطق يُدان الوافد اليوم – ولن نقول من مئات وآلاف السنين – أو يُشكك في انتمائه؟ وإذا كانت الأرض تسع الجميع، أفلا تسع أبناءها الذين ولدوا فيها، أو استقروا فيها، أو خدموها؟!
إن التعايش ليس ترفًا، بل خيار حضاري وإنساني لا غنى عنه. إما أن نعيش معًا بوئام واحترام وتكامل، أو نسلك طريق التنازع والصدام، وهو طريق لا يورثنا سوى الفتن والانقسام والدمار. لا أحد يملك حق إخراج الآخر من حضرموت، لا شرعًا، ولا عرفًا، ولا منطقًا، ولا قدرةً أو استطاعة. ومن يظن أنه يملك ذلك، فإنه يوهم نفسه بسلطة لا وجود لها، أو كما يقول القبيلي: يدك وما عطت.
لقد تجاوزت بلدان كثيرة حول العالم – كأمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها – منذ قرون صراعات من جاء أولًا، وبنت أنظمتها على أساس المواطنة والحقوق، لا على أسبقية الوصول أو سطوة الوثيقة، إن صحت تلك الوثيقة وصدق محتواها. وإن كانت تلك البلدان قد فعلت ذلك رغم تنوعها العرقي والثقافي والديني، أفلا يجدر بنا – ونحن من تجمعنا اللغة والدين والمكان والهم والهوية والعروبة – أن نكون أولى بالوحدة والإنصاف؟
إن حضرموت ليست وثيقة، ولا سلالة، ولا خريطة مغلقة، بل هي روح وهوية وحضارة وجغرافيا حيَّة تتسع للجميع. من ولد فيها، ومن عاش فيها، ومن خدمها، ومن أحبها، ومن اندمج في نسيجها، فهو من أهلها. ومن يتنكر لهذه الحقيقة، فإنه لا يطعن في غيره، بل يطعن في حضرموت نفسها.
نحن اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نكون إخوة في الوطن والهوية، نختلف باحترام ونتكامل بمحبة، أو نسير نحو صراع عبثي يستدعي الماضي، ويرجع بنا إلى التحالفات القبلية الصلبة، وحينها سيكون صراعًا صفريًا لا غالب فيه ولا منتصر. والخيار في النهاية بأيدينا جميعًا: إما أن نبني حضرموت للجميع، أو نهدمها على رؤوسنا.
مع خالص تحياتنا وتقديرنا






