السُبيع بادحدح
آخر جِيل الخيّرِين
تاربة_اليوم /كتابات واراء
كتب / محمد احمد بالفخر
23 يناير 2025
حديثي اليوم عن آخر نماذج حضارمة المهجر ممن كانت لهم اسهامات كبيرة نحو مسقط الرأس الغالية (حضرموت) وكأنّ لسان حالهم يقول:
يا مسقط الراس فيك العـِــزّ والحب دام
ردّوا على من سأل بعد التحية السلام
حديثي اليوم عن أحد أبناء بلدة (صيف) بوادي دوعن التي ولِدَ فيها عام 1340هـ شخصيتنا الفذّة الشيخ عمر بن احمد السبيع بادحدح رحمه الله وبها نشأ وترعرع، وعاش كغيره من أبناء حضرموت شظف العيش والحياة الصعبة التي تعيشها البلد في ذلك الوقت،
وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره أرسله والده الى مكة المكرمة كما هو حال الكثير ليشق طريقه ويبحث عن عملٍ ينطلق من خلاله الى فضاء ويكون سبباً بعد توفيق الله لتنعم الأسرة كلها بما سييسره الله على يده من خير وفير،
طبعاً وصل الشاب الصغير الى خير بقاع الأرض مع مجاميع من أهل البلد صغاراً وكباراً بعد رحلة مضنية الى المكلا على ظهور الجمال مروراً بالحُسُر الصعبة والطرق الوعرة، ومن المكلا ركبوا سفينة شراعية متجهة إلى جده كانت كلما تحركت ذات صباح تعيدها الرياح في المساء من حيث انطلقت،
وعند وصول السفينة كلٌ يجد من أقاربه من يستقبله ويستضيفه حتى يتم تثبيته في عمل وهكذا كان الحال مع الشاب الصعير عمر بادحدح سنتين قضاها عاملاً في منزل احدى الأسر الحجازية في مكة المكرمة حتى انتقل بعدها للعمل مراسلاً في محل صرافه ثم انتقل الى جده وهناك اقترض مبلغاً من المال واستأجر محلاً عمل فيه محلاً للصرافة وهكذا تدرّج حتى تحول الى تجارة المواد الغذائية وكان يطلق عليها مصطلح الأرزاق وكانت فاتحة لباب الرزق فنمت تجارته، لم يصبح من كبار التجار لكنه رضي بأن يكون من الطبقة المتوسطة واصبح عضواً في مجلس إدارة الغرفة التجارية منذ تأسيسها ولعدة دورات متتالية،
وعلى الرغم أن الشيخ عمر لم يلتحق بمدرسة لعدم وجودها في حضرموت بل تعلم القرآن والكتابة في الكتاتيب ووصل الى مكة ومقصده العمل لا العلم لكنه نمّى نفسه ذاتياّ من خلال القراءة والاطلاع المستمر ومن خلال الوسائل المتاحة في ذلك الوقت حتى أن صاحب البيت الذي عمل عنده في اول سنه اكتشفه ذات ليلة بدلا أن يكون نائماً كان جالس على ضوء الشمعة يكتب وينسخ كتاباً من الكتب،
ولهذا كان اهتمامه بالعلم ودعم الطلبة والمراكز العلمية ضمن الأولويات التي لا يحيد عنها فأبنائه جميعاً ذكوراً واناثاً من حملة الشهادات العليا،
ونظراً للمكانة التي وصل اليها كأحد كبار وجهاء جدة فقد تفرغ لقضايا خدمة مجتمعه وأهله فكان ذا رؤية تجديدية للعمل الخيري المؤسسي،
وكان منزله لا يخلو من ضيف وقد خصص جزء منه لمن يأتي من البلاد حتى يشقوا طريقهم ويبحثوا عن عمل،
وكان دوره نحو مسقط راسه لا ينقطع فساهم في انشاء اول مستشفى في دوعن، وكان له الدور الأكبر في انشاء الصرح التعليمي كلية الطب بجامعة حضرموت ورغم الحالة الصحية التي وصل اليها في آخر عمره إلاّ انه حرص ان يأتي الى المكلا لحضور افتتاحها وهو مقعد على كرسي متحرك،
وكذلك لا ننسى دوره الداعم لكثير من المؤسسات الخيرية وفي مقدمتها مؤسسة طيبة التي كان لأبنه الدكتور محمد شرف التأسيس وكنّا معه،
ومن أولويات اهتماماتها المساكن الطلابية للطلاب الجامعيين وفي مقدمتهم أبناء حضرموت في صنعاء وعدن والمكلا وسيوون،
وكان رحمه الله حريصاً أن يلتقي بالمسؤولين كباراً وصغاراً وكان يحثهم على تذليل الصعاب والتيسير على المواطن واكتشاف خيرات البلاد ليستفيد الشعب منها، وقد كان لي شرف مرافقته في كثير من هذه اللقاءات،
ومازلت أتذكر تلك اللوحة التي تتصدر مكتبه بأبيات للإمام الشافعي رضي الله عنه
وأفضل الناس ما بين الورى رجل
تقضى على يده للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف عن أحد
ما دمت مقتدرا فالسعد تارات
وأشكر فضائل صنع الله إذ جُعِلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
وخلاصة الأمر أنني قدمت هذه النماذج المميزة لنجدد الذكرى لعل وعسى أن نجد في هذا الجيل والجيل القادم من يقتدي بهم ويسير على أثرهم.
رحم الله عمر بادحدح وكل الخيرين.