رحيل قبل ألاوان
كتب / ناجي الحنيشي
توطئة: ((وأهزّ أقلامي فترشح حدّة وأسى..
ويندى بالدموع كتابي… ))
تحل الذكرى السنوية الاولى للرحيل ابن مارب البار ( أحمد علي مفتاح )
،وهو في ريعان شبابه ، وأوج نشاطه فيما روحه مفعمة حيوية نحو الصالح العام الإيجابي ، فشكل رحيله خسارة فادحة ، ومصاب جلل ، سيبقى أثره طويلاً على الحياة الجمعية .
حين شرعت الكتابة عن القائد (أحمد مفتاح) وعن أدواره ، ومُثُله وسجاياه ، أدركت بأن المهمة ليست سهلة ، وليست مجرد كتابة عن شخص عزيز أصابنا فُقده فحسب ، بل لأنها قصة مجيدة تُعنى بحياة انسان مَثّل وجوده استثناء ايجابي في مرحلة استثنائية شديدة الصعوبة ، نعم أنها قصة جد عميقة ، قصة خطّت فصولها اثناء حياة قصيرة زاخرة بالمآثر ، مفعمة بكل حَسن وإيجابي ، ولم يتبقى إلا إعادة صياغتها وإخراجها في قالب يدون كلما يعلي قيم الخير ، ومُثُل النُبُل ، وطُهُر السجايا الإنسانية الرفيعة .
شخصياً سأحاول قدر الإمكان أن اكتب بعض سطور عن الراحل – أحمد مفتاح – في ذكرى مؤلمة بشكل مختصر ، فوضعي الصحي لم يسمح لي بعد بالإطالة فكرا وكتابة ، لكن الكتابة عن أحمد وسجّلهُ المُشبّع بقائمة واسعة من الأدوار والمواقف الايجابية التي تفرد بها في حياته القصيرة ؛ فرض واجب .
(1)
تعاني الشعوب والمجتمعات المحلية من رحيل أفضل ابنائها ، وأجدر قادتها الذين يُعوّل عليهم كثيراً ، أنهم نُخَب مجتمعات ساعية لكل خير ونماء ، حتى وأن لم يمنحهم الزمن الوقت الكافي للمُضي نحو تحقيق الآمال والتطلعات المشروعة لمجتمعاتهم. هكذا يحكي تاريخ الشعوب والمجتمعات الإنسانية منذ القدم وحتى اليوم، وهو ما أكده لنا نحن المكلومون رحيل القائد الشاب -أحمد مفتاح – وهو في أوج حيويته ونشاطه الإيجابي المتقد ، فشكّل رحيله الفاجع خسارة فادحة حلت بالجميع وعلى كآفة المستويات ، ابتداءً بأسرته الكريمة ، وانتهاء بمجتمعه الباحث عما يداوي جراحه ، وينقله إلى فضاءات رَحبَة ، خالية من مساوئ الراهن المُشبّع بما يكبح الآمال المعقودة على الخيرين ، ويعكر صفو حياتهم ، غير أن الحياة السياسية المأربية النشطة ، تبقى هي أكثر الجوانب تأثرا بفقدان أحد المع ساستها، وأذكى قادتها ، القادرين على قرائة الراهن المعاش،وظروف ومجريات أحداثه المتشابكة، دون مخاتلة أو مبالغة، مما مكنه من حجز مكانة رفيعة في الوسط السياسي والاجتماعي ، وتبوأ موقعا مميزا في ميدان المعرفة والوعي والثقافة .
في العام 2008م تعرفت لأول مرة على الشاب ( أحمد مفتاح) ، اثناء لقاء جمعنا عند محافظ المحافظة يومها الشيخ ناجي الزايدي . اللقاء يومها في مرحلة شديدة الحساسية ومتعددة الحسابات، بين فرقاء الحياة السياسية ، لكنه كان فرصة لكلينا للتعرف على بعضنا ، ثم تكررت لقاءاتنا بشكل دائم حتى رحيله المفاجئ ، اليوم لا زلت أتذكر عملنا المشترك لاخراج رؤية القضية الماربية بشكلها النهائي في العام 2013م ، يومها خطينا مسار مرحلة جديدة على قدر عالٍ من الأهمية ، محلياً ووطنياً ، دُوّنِت في سجلاتها اسماء أجدر الشباب والمثقفين والساسة ، الذين حملوا قضية مأرب وأوصلوها إلى كل الأنحاء لأول مرة في التاريخ ، مَثّل ( أحمد ) نقطة مضيئة في مسارها ، بما يمتلك من آراء صائبة ، وجملة أفكار ناضجة ، ومقترحات مهمة .
كان القائد احمد محاور بارع ، ومناقش صبور ، يمتلك رحابة صدر لا محدودة ، يقبل الرأي والرأي الآخر ، قاعدته أن الاختلاف لا يفسد للود قضية ، فوق معينه الذي لا ينضب من آراء صائبة ، وإضافات بناءة ، ومقترحات مهمة ، لا تزال حاضرة توثيقاً ، وفكراً ، حتى اليوم .
لقد منح – فقيدنا العزيز ورفاقه – الحياة السياسية في مأرب مكانة مرموقة ، وفاعلية متواصلة ، في مرحلة عنوانها تفرد مأرب بالعمل السياسي المشترك ، المعبر عن حالة ماربية وحيدة ، في وقت تعطل كل شيء في البلد .
كان القائد ( أحمد ) قارئا مجيداً للوضع تماماً ، يعرف متى يقول : نعم . ومتى يقول : لا . إنها ميزة لا يحوزها إلا اشخاص نادرون ، اختارهم الله ومنحهم لمجتمعاتهم لحكمته ،حين تكون تلك المجتمعات في أشد الحاجة لهم ، ولم يكن القائد – أحمد مفتاح – إلا واحداً منهم رحمه الله رحمة الأبرار.
(٢)
أحمد مفتاح كان عنوان للقيم والمثل الإنسانية ، إذ لم تغيبه إدارة الشأن العام أو ميدان السياسة عن أهم سجايا الإنسان السوي المشبع بالنبل ومكارم الإخلاق ، فبقى إنسان مميز في حياته وعلاقاته الخاصة والعامة وعنوان يشع بهاءاً إنسانياً لا ينطفئ ، إذ تجده حاضراً في العُمق الاجتماعي ، يتلمس أحوال الناس بدون منة أو خيلاء ، وحين يتطلب الأمر تقديم العون ؛ يبادر بصمت الى فعله، وعندما يتناهى إلى مسامعه إن ألمٌ أو حزن أصاب صديق أو معروف أو غيرهما ، يسارع دوماً للقيام بما يجب ، ملامح وجهه تعكس حالته المعاشة لحظياً أيّاً كانت ، بقي قريب من الآخرين حتى ولو اختلف معهم ، يصاب بما أصيبوا به ، هذه الحالة تجدها في أفعاله وتصرفاته ، بل أنها تنعكس على ملامحه بشدة أكثر من المصاب نفسه .
شخصياً ، لقيت ندرة نوعية أحمد الإنسانية ، حين خيم على كياني حزن بالغ ، يومها زارني وبدا يواسيني مواساة جد حميمة ، أضفت عليَّ دفء وحنان فريدين ، أزاحا عني ما أعاني ، حتى أني تحايلت فكرياً كيف أخفّف عنه الشعور المسيطر على روحه الشفافة لأجلي، صمت قليلاً ثم اختتم مواساته بفقدان ابنتي سهى ، بجملة لا تزال حاضرة في مخيلتي من تلك اللحظة حتى اليوم ، قال: ( حزن الفُقد ليس عليكم فقط ، بل أنه حزن شامل أجده شخصياً أمامي يومياً في بكاء ابنتي على زميلتها ).
انها كلمات نابعة من القلب وقعها وأثرها بقيا حاضران في أعماق الروح والوجدان ..
آهٍ يا أبا أسامة ، كم أحزننا فراقك ، وكم كان وقع خبر رحيلك المفاجئ مأساوي على شخصي ، وعلى الأبناء والبنات الذين فقدوا قدرة النطق وهم يتزاحمون لتعزيتي بفقدان صديقي وأخي الذي لم تلده أمي ، لكنها الحياة هكذا بانكساراتها ، ومآلاتها ، ومصائبها ، وقدر الله الذي لا مفر منه .
هكذا فُجعنا برحيل جزء منا ، نابضٌ حياة وجهد ، وودٌ وضوء ..
رحمك الله رحمة الأبرار ، ورحم الله والديك الكريمين واسكنكم جميعاً فسيح جناته ، وجبر الله المصاب وعصم قلوب أولادك وبناتك وأخوانك ورفاقك .
#المكلوم حتى اللحظة ناجي الحنيشي
سكرتير أول للحزب الاشتراكي اليمني – مارب